"علينا أن أن نتحمل أفكارنا طوال الليل، حتى
تقف البديهية النضرة في البرد بلا حراك" – والس ستيفنز
****
كان "الطويل" جالسًا في سيارة الترحيلات المكدسة بالرفاق وهو يدخن في صمت. على عكس رفاقه لم يكترث "الطويل" بالاقتراب نحو الكوة الضيقة لينظر من خلال الثقوب الحديدية كي يرى نبض الشارع الذي لم يتجسسه منذ أكثر من عام. كان الدفء القادم من هذه النوافذ كافيًا. وكانت أشعة الشمس الواقعة على جلد "الطويل" الجاف والبارد قد أيقظت حنينًا في فؤاده إلى ما هو خارج الجدران، حنينًا جعله يعزف عن التقدم نحو الكوة كي لا تخر قواه ولا يتغلب الشوق على الصمود. استطاعت الشمس والدفء وحدهما أن يذكرا “الطويل” بطعم الحياة التي كانت، وبإمكانية الحياة خارج جدران الزنازين. ربما في يومٍ ما سيعود إلى الحياة التي سُلبت منه. "لحظة، تمهل"، قال له عقله، "لا يغرق الإنسان من الماء، بل من الأمل". شرد “الطويل” بذهنه وهو يفكر في كل ما مر به منذ عام ١٩٥٩، حينما أُخِذ "ورا الشمس" لنشاطه في الحركة الشيوعية المصرية. أنتج هذا الانتماء الكثير من المشاكل. عائلته هاجمته لأنهم رأوا في “الطويل” شابًا طائشًا يعبث بمصطلحات أكبر منه، وهي في الواقع لا تعني لهم إلا معاداة الدين والدعوة للإلحاد والدخول في معركة ضارية مع الدولة وزعيمها جمال عبد الناصر. أما الدولة فرأت في “الطويل” مخربًا وعدوًا للنهضة القومية، ولذلك كان مبررًا لهم أن يلقى القبض عليه، ويتعرض للتعذيب البدني والنفسي، ثم ينكر وجوده في سجون الدولة. ولم يكن واقع “الطويل” مختلفًا عما مر به زملاؤه الذين يتزاحمون حوله في سيارة الترحيلات ويدفعون ثمن أفكارهم. هذه الأفكار التي أقلقت مضجع الزعيم جمال عبد الناصر شخصيًا، والتي دفعت وزير الحربية شمس بدران أن يشرف على تعذيب المعتقلين بنفسه. هكذا جلس “الطويل” يشاهد سنوت شبابه تمر أمام عينيه وتتمزق إربًا بين المعتقلات والسياط والتجويع والخوف.
كان من الطبيعي أن تخوض الحركة الشيوعية نقاشًا طويلًا ومراجعةً حول أفكارها وأساليبها ومستقبلها أثناء فترة المعتقل. كانت النقاشات متشعبة ومعقدة، وكانت جميعها نابعة عن اليأس والإرهاق والتشوش الذي ساد هذه المرحلة. فأتت النقاشات محتدة ومشحونة بالآراء والمشاعر المتناقضة التي كثيرًا ما كانت تؤدي إلى الغضب. وكان دائمًا ما يجد “الطويل” يجد نفسه دائماً على اتفاق مع بعض الرفاق وعلى اختلاف مع آخرين، فيشارك في اصدار بيانٍ من داخل المعتقل ردًا على بيان صدر من مجموعة أخرى بالمعتقل نفسه ... وهكذا.
لم تكن هذه الرحلة - التي كانت ربما من سجن لآخر أو من سجن لنيابة – تشكل استثناءًا أو هدنةً للنقاش الدائم والمستمر بين الرفاق. فداخل هذه العلبة الحديدية التي تسمى بسيارة الترحيلات، والتي تعزل “الطويل” عن العالم الخارجي بجدار حديدي سميك، كان “الطويل” يتأمل ماضيه وماضي رفاقه حينما أتى “القصير” ليجلس بجواره ويشعل سيجارة. خرج “الطويل” عن شروده قليلًا حينما رأى “القصير” بجواره. “الطويل” و “القصير” أصدقاء منذ أعوام طويلة تسبق فترة المعتقل، ورغم ذلك قلما اتفقا في حديثهما عن الأمور السياسية المتعلقة بالحركة. كان جوهر الاختلاف يكمن في تمسك “الطويل” بالعقيدة الماركسية الرئيسية التي عليها تأسست الحركة، والتي لا زالت تهتم بالقضايا العمالية وتهدف لإقامة ديكتاتورية البروليتاريا وإعادة توزيع الثروة لتتناسب مع مفاهيم مختلفة للعدالة. بينما كان “القصير” مندهشًا من فكر صديقه الذي لا يزال متمسكًا بهذه الشعارات والأحلام، رغم اتضاح أنها أفكار مثالية لم تجلب معها إلا المتاعب. كان “القصير” شخصية أكثر مرحًا من “الطويل”، شخصية تتأرجح بين الجدية والمزاح في حديثه لتخفف عن نفسها ورفاقها وطأة التجربة وبشاعتها. جلس “القصير” بجوار صديقه بعد أن لاحظ الهموم تتشكل على وجهه، فقرر أن يمزح قليلًا مع صديقه ورفيقه ويطلق بعض النكات عن الماركسيين المتشددين كي يخرج “الطويل” عن همومه. وبالفعل نجح “القصير” في مسعاه، لكن سرعان ما تحول الأمر إلى نقاش آخر حول الحركة وأفكارها وجدوى العمل السياسي .. إلخ. حينما أدرك “القصير” أن الحوار ينساق إلى تكرار نقاشات كثيرة سبقت، قفز من موقعه بشكل مسرحي والتف للكوة الصغيرة التي كانت تجوارهما، وقال لـ”الطويل” وهو يسحبه من ساعده بين الجدية والمزاح، "انظر خارج النافذة .. انظر للشارع فقط!". طاوعه “الطويل” وفعل كما طلب صديقه في خمول، ليرى حياة الشارع العادية بكل ما فيها دون وجود شيء يثير الاهتمام. قام “القصير” بإعطاء صديقه فرصة للتأمل قبل أن يضيف:
" انظر جيدًا .. أين الجماهير التي طالما تتحدث عنها؟ أين هؤلاء الذين نناضل من أجلهم، والذين نود أن نخلق لهم ولنا مستقبل أفضل؟ أين هم؟ هل يحاربون من أجل خروجنا كي نحقق العدالة التي ننتظرها جميعًا؟ أيعرفون أننا هنا في الأساس؟ .. انظر جيدًا!".
قال “القصير” هذا ثم تهالكت ركبتاه وجلس في موقعه مجددًا ليجهش في بكاء حار انتقل إلى “الطويل” كالعدوى، وسط دهشة الرفاق.
***
“الطويل” و”القصير” في هذه القصة هما أبناء تجربة الستينيات، لكن إن تلاعبنا بالتواريخ قد يصبحا أبناء السبعينيات أو الثمانينيات أو الأعوام الأخيرة، دون أن نغير تفاصيل قصتهما أو حوارهما إلا قليلًا. سيتغير السياق بشكل ما ليناسب تغير التاريخ، لكن الجوهر سيظل واحدًا. تتكرر الهزيمة، على سبيل المثال، أو غيرها من الأحداث والمشاعر عبر الأزمنة بلا هوادة. وتتكرر الأسئلة المطروحة والنقاشات الدائرة كأن التاريخ يركض في حلقة مفرغة ليسلب أنفاسنا ويهلكنا. أين الجماهير التي نزعم بتمثيلها؟ ما هي العدالة الاجتماعية التي ننادي بها؟ الفرد أم المجتمع؟ ما معنى كل هذا العنف؟ ... إلخ. لكن هذا التكرار في طرح الأسئلة لا يعني أن الماضي ركام من الفشل يجب أن يحتقر، ولا يعني أيضًا العيش الدائم في الماضي بحثًا عن الإجابات والغرق في طيات التاريخ الحلزونية.
في سياق الفلسفة مثلًا، يقول الفيلسوف الفرنسي آلان باديو في كتابه "العلاقة الغامضة بين الفلسفة والسياسة" (الصادر عام ٢٠١٢): "ففي الفلسفة لدينا أمور ثابتة. أمور يُلزمها النظام على التكرار، أو ما يشبه العودة أبديًا لنفسها. لكن هذا الثبات، هو ثبات الفعل وليس ثبات المعرفة" (ص ١٥). في هذا السياق، يصبح هذا التكرار الذي يربط الماضي بالحاضر في غاية الأهمية، لأن النبش في تجارب الماضي يتيح للمرء أن يبني الحاضر على أسس التراكم المعرفي التاريخي. يشير باديو للتشابهات المستمرة في طرح التساؤلات الفلسفية نفسها، وهذا واضح عند "دولوز مع ليبنتس وسبينوزا، سارتر مع ديكارت وهيجل، ميرلو بونتي مع برجسون وأرسطو، باديو مع أفلاطون وهيجل، جيجك مع كانت وشيلنغ. وغالبًا الجميع مع الجميع في الـ٣ الآف سنة الماضية" (ص ١٥). رغم هذا التكرار، يختلف السياق التاريخي دائماً، دائمًا يوجد حدث سياسي يدفع البعض لإعادة طرح الأسئلة نفسها والبحث عن إجابات جديدة، لأن إجابات الماضي باتت غير مكتملة. هذا التكرار، بديهيًا لا يقلل من شأن هؤلاء الفلاسفة المذكورين، لأن ثمة تكرار إبداعي: أن تدفعنا أحداث محددة، سياسية كانت أم علمية، أم فنية، أم عاطفية، لطرح سؤالٍ قديمٍ وإعادة تشكيل أو تدمير إجاباته السابقة. وهذا تكرار يحدث دون تقديس الماضي أو احتقاره تمامًا، إلا إذا لزم الأمر.
****
من الملفت للنظر أن التظاهرات التي بدأت في يناير ٢٠١١، وهي التظاهرات التي اكتظت بالبشر والتعددية، لم تشر إلى التاريخ في تشكيل هويتها رغم التشابهات البارزة. اهتمت التظاهرات بالحاضر والماضي القريب جدًا. كان المطلب يرتكز على خلع هذا الرجل الذي قضى ٣٠ عامًا من النهب والفساد في الحكم. كانت هذه الإشارة هي أبعد ما نُظر إليه في الماضي. عدا ذلك كانت الإشارة إلى اقتحام ميدان التحرير في عام ٢٠٠٣ للتظاهر ضد غزو العراق، وإلى تأسيس حركة كفاية في ٢٠٠٥، وإلى إضراب المحلة الكبرى في ٢٠٠٨، ثم إلى مقتل خالد سعيد بالأسكندرية في ٢٠١٠. وكأن المتظاهرون قد تقبلوا محاولات الدولة في دفن تاريخ نضالهم الأكبر. ولم ينبع هذا النسيان التاريخي عن جهل، فكانت صفوف المتظاهرين تحتوي على أناس أكبر سنًا عاشوا عصوراً مختلفة من النضال وخاضوا معارك جيلية سابقة. لكن رغم ذلك لم نجد إشارة حقيقية لتجارب الحركة الطلابية التي اشتدت قوةً في السبعينيات، أو إلى ما سبق أو تلى ذلك من حركات ثورية قد يتشابه فيها جوهر تساؤلات الحاضر بالماضي. لا شيء. كان الحاضر واللهفة على المستقبل هما ما سلبا الماضي.
واليوم، بعد عام ٢٠١١ وسقوط مبارك من الحكم، أصبح ميدان التحرير والـ١٨ يوم من الاعتصام هما موضع الاهتمام. ودون أن نقلل من شأن وأهمية ما حدث من تظاهرات منذ ٢٠١١، فاليوم قد أصبحت الإشارة إلى الماضي الثوري لا تتعدى عام ٢٠١١، كأننا أبناء اللحظة فقط. فمن يتذكر اليوم “الطويل” و”القصير”، أو خميس والبقري، أو فريد حداد وشهدي عطية، أو الحركة الطلابية، أو الحركة النسوية، حينما يطرح أسئلة جوهرية عن واقع الحاضر المرير؟ وغدًا من سيتذكر أسئلة ونقاشات وانتصارات وهزائم ويأس اليوم حينما يتكرر التاريخ؟ فالفناء مصير كل ما ينسى.